إمكان المعرفة
هل معنى أن الإنســان يمتلك أدوات تعينه على المعرفة (الحواس، العقل.. إلخ)، أن باســتطاعته أن يصل إلى جميع الحقائق.. وأن يطمئن إلى يقين تلك المعرفة..؟
من المشــكلات الأساســية في موضوع إمكان المعرفة مشــكلة «الشــك واليقين» التي تعد إحدى المشكلات الفلسفية قديما ً وحديثا. وتدور هذه المشــكلة حول قدرة الإنســان على معرفة العالم من حوله، ودرجة اليقين المتحققة في هذه المعرفة ، وقد ظهرت في هذا المجال مجموعة من المذاهب يمكن إجمالها فيما يلي:
أولا: مذهب الشك ويمكن حصره في نوعين:
(أ) الشك المطلق
(ب) الشك المنهجي.
ثانيا: الدوجماطيقية. (القطعية)
أولا: مذهب الشك
تعريف الشك وخصائصه:
يحمل الشــك دلالات شــتى، وذلك لأنه يطلق على مجالات مختلفة، وعلينا أن نلاحظ أن معنى الشك في حياتنا اليومية أوسع بكثير من الشك بمعناه الفلسفي.
ما معنى الشك كما نستخدمه في حياتنا اليومية، والشك بالمعنى الفلسفي؟
الشــك كما نســتخدمه في حياتنا اليومية، يرتبط بأمور الحياة العامة كالتشكك في مصداقية أو أمانة الآخرين، أو التشــكك في معتقدات جماعية – ويســمى الشــخص في هذه الحالة ( متشككا) – لكنه لا يمكن أن يكون شاكا بالمعنى (الأبستمولوجي) للكلمة.
الشك الفلسفي:
يعني لفظ الشــك في اليونانية البحث والتقصي من أجل الكشــف عن الحقيقة، كما يطلق على من ينظــر بإمعــان، أو يفحص باهتمام قبل أن يصدر حكما على شــيء أو قبل أن يتخذ أي قرار، ولكن هذا اللفظ اتخذ مدلولا اصطلاحيا بعد ذلك ليشــير إلى التوقف عن إصدارالحكم لســبب ما (كعدم الثقة في وســائل المعرفة..). على أن أوســع معنى يمكن أن يفهم به الشك الفلسفي هو: أن تضع لأسباب معينة ما يتفق الناس على التســليم به موضع الشــك، وتثير التســاؤلات حوله، أي أن الشك: تصور يضع موضوع التساؤل ما يعتبره الآخرون معرفة قاطعة وصحيحة. كما يجب أن نميز بين الشك وبين الإنكار – أو عدم الاعتقاد – إذ شــتان بين من يصدر ً حكما ســلبيا (الإنكار) ومن يتوقف عن إصدار الحكم ً ســلبيا كان أو إيجابيا، أو يثير تساؤلات معرفية.
وهناك نوعان بصفة عامة من الشك الفلسفي، هما:
(أ) الشك المطلق:
ويعني تعليق الحكم والتوقف عن إصداره، وأصحاب هذا النوع من الشــك ينكرون إمكان المعرفة لأنه لا يوجد شيء يمكن معرفته، فإذا ما وجد استحال نقله أو توصيله للآخرين. ومن ثم فصاحبه يبدأ ً شاكا وينتهي شاكا، فهو غاية وليس وسيلة.
هذا وقد ظهرت بوادر نزعة الشــك في الفلســفة اليونانية القديمة عند المدرســة الإيلية ثم جاءت السوفسطائية فزعزعت الإيمان بالمعرفة اليقينية، وقد بلغت النزعة الشكية ذروتها في تعاليم «بيرون» الذي يعد مؤســس الشك في العصر القديم. وقد قام تلاميذه من بعده بتدوين مؤلفاته ودعمها وأعطوا لأفكاره وآرائه صيغة المذهب.
ممــا هو جدير بالذكر َّ أن ظهور هذا النوع من الشــك قد ارتبط بتفــكك المجتمعات وتدهورها ً حضاريا ً وفكريا ً وخلقيا، أي أنه أحد مظاهر هذا الانهيار.
ب – الشك المنهجي:
وهو نوع من الشك المؤقت يتخذه الفيلسوف ً منهجا له في التفكير يختاره بإرادته ليتخلص به عقله من الأفكار التي اكتســبها دون دراسة أو تمحيص أو إعادة تقييمها كخطوة أولى للوصول إلى اليقين، أي أنه وسيلة وليس غاية.
فيما يلي سوف ندرس بعض النماذج لهذين النوعين من الشك كالتالي:
أ – الشــك المطلق عند كل من السوفســطائيين، ومذهب التوقف عن الحكــم عند بيرون وأتباعه، وأتباع الأكاديمية الجديدة – مع مناقشة ودحض حجج هؤلاء الشكاكين.
ب – الشــك المنهجي في الحضارة الإسلامية عند الإمام أبو حامد الغزالي، وفي الحضارة الغربية عند ديكارت، مع إبراز أهمية هذا النوع من الشك.
أ – نماذج من الشك المطلق
1. Sophists السوفسطائيون
من هم؟
هم جماعة من المفكرين اليونانيين ظهروا في وقت انقلبت فيه الأوضاع السياســية في اليونان رأسا علــى عقب، ومن ثم تعين أن يختلــف النظر في ظل هذه الأوضاع الجديدة إلــى الفضائل المطلوبة من المواطن، وقد جاء ظهور جماعة السوفســطائيين في تلك الفترة نوعا من الاستجابة لهذه الحاجة الملحة لفضائل وسلوكيات تطابق الأوضاع المتغيرة، فالسوفسطائيون فلاسفة سياسة، وهم معلمو خطابة وحكمة، ّ ويعدون مؤسســي علم البيان والخطابة، وهو ما يتناســب ومتطلبات السياســة، ولم يكون السوفسطائيون مدرســة فلسفية أو مذهبا، لكنهم يشتركون في بعض الآراء العامة، وجهوا الانتباه إلى مشكلات المعرفة، ونادوا بنسبيتها لاستحالة البرهنة عليها، فالإنسان مقياس الأشياء ً جميعا، كما ادعوا نسبية الأحكام الأخلاقية ونسبية القوانين والعدالة في المجتمع.
كيف شكك السوفسطائيون في إمكان المعرفة؟
لجأ السوفسطائيون في المجادلات إلى مناهج عرفت فيما بعد باسم «السفسطة» وتعتمد على التلاعب بالألفاظ، وكان دفاعهم عن فكرة ما يشمل الدفاع عن الفكرة أو ضدها، ما دامت تتحقق من ورائها مصلحة ذاتية سياسية وبصرف النظر عن مصلحة الجماعة.
وبالطبع فإن هذا الاســتخدام السيئ للجدل لا يســاعد على الوصول إلى حقيقة ثابتة، لذلك تصدى لهم باقتدار الفيلسوف اليوناني المعروف سقراط، ثم أفلاطون وأرسطو بعده.
ومن أشــهرهم بروتاجوراس، وجورجياس، وســوف نتحدث فيما يلي عن مؤسس هذه المدرسة: بروتاجوراس.
بروتاجوراس (كنموذج للفكر السوفسطائي)
هو من أشهر ممثلي هذه الحركة، ولكي نتعرف عليه سنلتقي معه في حوار قصير:
بروتاجوراس: نعم، أنا من أكبر ممثلي الحركة السوفسطائية، وقد تأثرت كثيراً بالفيلسوف اليوناني القديم «هرقليطس» أنا وبقية زملائي من السوفسطائيين.
(..): إذن فأنت مؤمن بالتغير يا « بروتاجوراس»؟
بروتاجوراس: نعم، فأنا مؤمن بعبارة هرقليطس « كل شيء في حالة تغير مستمر»، الطبيعة متغيرة والحياة السياسية أيضا متغيرة، وإحساساتنا تتغير من لحظة إلى أخرى ومن إنسان لآخر.
(..): إذا كان التغير هو السمة العامة في الطبيعة والحياة، فكيف نتوصل إلى الحقائق.
بروتاجوراس: لا توجــد حقائــق مطلقة ولاثابتة، ولكن توجد حقائق نســبية تختلــف باختلاف الأفراد، فالحواس وهي مصدر المعرفة الإنســانية، لا تقع على شــيء ثابــت، وليس هناك حقيقة موضوعيــة واحدة هي موضع اتفــاق بين الناس، بل هناك حقائق متعــددة بتعدد الأفراد، وتعدد الحالات المختلفة في الفرد الواحد.
(..): ألذلك قلت عبارتك المشهورة: «الإنسان هو مقياس كل شيء، ما يوجد وما لا يوجد».
بروتاجوراس: نعم، فما يراه «إنسان أنه حق، هو حق بالنسبة له، وقد يكون ً باطلا بالنسبة لغيره».
(..): ماذا تقصد «بالإنسان» هنا يا «بروتاجوراس»؟
بروتاجوراس: أقصد هنا «الإنسان الفرد» وليس الإنسان في معناه العام (الماهية العامة) فالإنسان الفرد هو معيار الحق والباطل، الخير والشر..إلخ.
أهم النتائج المترتبة على الشك السوفسطائي:
١ – هدموا بذلك أهم الأســس التي يقوم عليها العلم بإنكارهم إمكانية إصدار أحكام عامة أو وجود حقائق موضوعية تكون موضع اتفاق بين الناس.
٢ – هدموا بذلك الأسس التي تبنى عليها القيم والأخلاق عندما أقروا النسبية الذاتية فيما يتعلق بالحق والباطل والخير والشــر، وقد انعكس ذلك ســلبا على الحياة الاجتماعية نتيجة لزعزعة الثقة في العلم والقيم والمعرفة، كما يتعذر التواصل الثقافي والحضاري بين البشر نتيجة لإلغاء دور العقل وتعليق المعرفة على الحواس.
© موقع كنز العلوم. جميع الحقوق محفوظة.