الفلسفة

القيم الكبرى والعلاقات بينها

 درج الفلاسفة الأوروبيون على تصنيف القيم إلى قيم عقلية وأخلاقية وجمالية يمثلها على الترتيب: الحــق، الخير، الجمال. والحقيقة أن هذا التصنيف يعود إلى أفلاطون الذي لم يكن يقيم أي اعتبار لعالمنا المحســوس لأســباب كنا قد أشــرنا إليها في الفصل الأول من الباب الثاني من هــذا الكتاب. ويبدو أن أفلاطون ومن درج على طريقته في التفكير، نظروا إلى الإنسان لا بوصفه ً كائنا ً منخرطا في العالم له مطالب وحاجات مادية تحتم عليه إرضاءها بل فقط بوصفه ً روحا يتجاوز هذا العالم بتصور عالم عقلي خالص يكمن وراءه هو العالم الحقيقي. ولا شــك أن هذا التصنيف يعتريه النقص، ويفتقر إلى الواقعية، فهو يهمل ً ركنا ً هاما من القيم يشــكل الأساس للقيم الثلاث المذكورة والشرط الذي لا غنى عنه لاهتمام الإنسان بها وبحثه عنها وهذا الركن هو القيم المادية التي تتعلق بالوفاء بحاجات الناس العضوية والقيم الوجدانية المتمثلة في اللذة والألم. فإذا كان ً صحيحا أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، فالصحيح ً أيضا أنه لا يحيا بالعقل وحده، فالعقل الخالص من شــأن االله، والإحساس الخالص من شأن الحيوان. أما الإنسان فهو يشغل موقع الوسط بين هذين الحدين، فهو عقل وإحساس ً معا، أو قل إنه روح وبدن. ولا يمكن أن يحيا بأحدهما على حساب الآخر إذا ما أريد لحياة الإنســان أن تســتقيم، لهذا ترى أن الإسلام أصاب كبد الحقيقة حين أعطى للقيم المادية والوجدانية ّر عن دراية عميقة بحاجات الكائن الإنساني عندما فعل ذلك. المكانة التي تستحقها، وعب فالمســلم يجب عليه – بأمر دينه – أن يضمن لنفســه ما ّ يحصنها ويرضي حاجاتها الضرورية من مأكل ومشــرب وملبس ومســكن ويمتعها بكل ما أباحه ّ االله لها.

لكن لما كان لا يتسع المقام لمعالجة كل هذه الأنواع من القيم فسنكتفي بتناول ما اتفق على تسميته بالقيم الكبرى (الحق – الخير – الجمال) بالمعالجة بما يمكننا في إيجاز.

 الحق:

 فالحق أوالحقيقة قيمة ينشــدها الناس ً دائما، بقدر ما يرفضون نقيضها الذي هو الزيف أو الخطأ أو الكذب. إذاشــئنا أن نقف بدقة على معناها فســنجد أنها تقال على أنحاء شتى، لأنه ليس لها معنى واحد بل معان متعددة يكشــف عنها الاســتعمال. وهي ذات علاقة بالأقوال والأشياء والأفعال، فتراها تقال على القضايا الصحيحة مثل قولنا: الشمس ساطعة، وتقال للدلالة على الخاصية التي يتميز بها ما هو صحيح أو حقيقــي. كقولنا: الحريــر الحقيقي هو الذي لا يوجد فيه غش. وفي كل الحالات فهي تقوم على المطابقة بين الفكر والواقع أو كما يقال تطابق ما في الأذهان مع ما في الأعيان.

الخير:

 أما الخير فنعرفه بأنه الفعل أو السلوك الذي يطابق مستلزمات العقل، ويحقق مثال الإنسان كإنسان، ومعنى هذا أن الفعل يكون خيراً فقط إذا كان يصدر بقصد تحقيق الصلاح للإنســان قاطبة.. ويقف الشــر ً متناقضا مع الخير بوصفه الفعل الذي يؤدي إلى إلحاق الأذي بالآخرين سواء أكان بقصد منفعة شخصية، أم مجرد الإيذاء فحسب.

الجمال:

 ويأتي في المقام الثالث الجمال باعتباره قيمة إنسانية سامية تثير في نفوسنا الإعجاب، وتجعلنا نقف مشدوهين أمام جلالها وروعتها وعذوبتها.

 ونحن حين نقول عن الجمال إنه قيمة إنســانية، فما ذلك إلا لأنه ليس خاصية جوهرية تقوم بذاتها في الأشــياء، بل هو تعبير عن علاقة يشــكل الإنسان والأشياء قطبيها الأساســيين فالأشياء حاملة للقيمة الجمالية والإنسان هو الذي يخرج تلك القيمة إلى حيز الوجود، حين يعايش الأشياء ويتذوقها ويستمتع بها أو قل حين يحولها من أشياء بذاتها إلى أشياء لنا فيها منفعة واستمتاع.

 الجمــال هو القيمة الوحيــدة من بين القيم الكبرى التي لا تقوم على أســاس ما تجلبه لنا من فوائد ومنافع. فنحن نستمتع بالسماء المرصعة بالنجوم، وبالعذوبة في وجه طفل بريء لا لشيء سوى الاستمتاع الخالص. والحقيقة أن الاســتمتاع الروحي المذكور لا ينجم عن تأمل الشــيء من حيث هو شيء واقعي فحسب، بل من حيث دخوله في علاقة مع المثل الأعلى الروحي الذي ننشده.

 على أن القيم المذكورة، وإن بدت كل منها قائمة بذاتها ومســتقلة عن القيم الأخرى، فهي متشابكة لدى الإنســان ومتضافرة بحيث يصعب فصل بعضها عن بعض. فأخلاق الإنسان الفاضلة هي التي تدفعه إلــى قول الحق ورفض الباطل، ّ والتقصى النزيه والدقيق للحقيقة مهما كلّف ذلك من صعاب، كذلك فإن الاســتمتاع الذي يلقاه في فعله للخير هو ما يدفعه ّ ويشــده إلى القيام بذلك الفعل. والواقع أن مرد ذلك التشــابك بين القيم إنما يعود إلى أنها كلها تعبير عن تجسيد مثل أعلى إنساني. لكنها تفقد هذه الخاصية لدى الإنســان حين ينحدر بمســتواه إلى الحد الذي يكون هدفه الوحيد هو إرضاء الحاجات والمطالب البيولوجية وحدها، ويكف عن الإرتقاء فوق المستوى البهيمي الذي يكون عليه الحيوان.

© موقع كنز العلوم.  جميع الحقوق محفوظة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى