الفلسفة

مصدر المعرفة عند العقليين (المذهب العقلي)

 يرى أنصار المذهب العقلي أن العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة الحقة التي تتســم بطابع الضرورة والشمول، وعن طريق الاستدلال العقلي الخالص يمكننا أن نصل إلى معرفة العالم. 

وأما الضرورة التي تتميز بها المعرفة العقلية، فتعني أنه لا يمكن الشك فيها، فلا يمكن تصور إلا أن (١+١=٢) بالضرورة، ولذلك فقوانين المنطق والرياضيات لا يختلف عليها اثنان، فالحقيقة يجب أن تكون واحدة بالنسبة إلى جميع العقول ولا تتوقف على مزاج أو رأي أحد. 

وأمــا اتصاف الأحكام العقلية «بالشــمول» فإن ذلك يعني صدق هــذه الأحكام في كل زمان ومكان وعدم تغيرها بتغير الظروف والأحوال، أي أن ما هو صادق بالأمس هو صادق اليوم وسيكون ً صادقا غداً، لذلك يرى أصحاب المذهب العقلي أن اليقين الذي نلمســه في العلوم الصورية، كالرياضيات والمنطق، هو المثل الأعلى لليقين، لأن الصدق في هذه العلوم ضروري وشامل.

 من خصائص المعرفة العقلية الضرورة والكلية، فما هي خصائص المعرفة الحسية (التجريبية).

 ويتفــق العقليون على أن العقل قوة فطرية واحدة توجد عند جميع الناس، وهي كما يقول ديكارت «أعدل الأشياء قسمة بين الناس».

 فبما أن المعرفة العقلية تتسم بالضرورة، فهي لا تقبل التعديل ولا الاحتمال، ولا تتوقف على الأفراد والظروف، ومن هنا كانت فطرية فينا  جميعا.

العقل بقوانينه ومبادئه الأولية السابقة والمستقلة عن التجربة هو مصدر كل معرفة. ويعتبر أفلاطون “Plato” أشــهر ممثلــي المذهب العقلي فــي العصر اليوناني، كما يمثل هــذا المذهب في العصر الحديث العديد من الفلاسفة من بينهم «ديكارت» و«سبينوزا» و«ليبنتز» وغيرهم.

والمذهب العقلي مثله مثل المذهب التجريبي، يضم  فرقا أو شيعا شتى تتفق في الأصول (التي أشرنا إليها) وتختلف في الفروع. وسنعرض هنا لاثنين من أبرز ممثلي هذا المذهب وهما أفلاطون، وديكارت.

1. أفلاطون  Plato (م. ق ٣٤٧- ٤٢٨)

 يعــد أفلاطون الممثل الحقيقــي للمذهب العقلي في العصر اليوناني، فقد دلل في محاورتيه «مينون» و«فيدون» على الطابع الأزلي المستقل والسابق على التجربة، الذي تتميز به المعرفة العقلية. 

 لكي نتعرف على الطابع الأزلي للمعرفة عند أفلاطون، ينبغي أن نشــير أولا ً إلى نظريته في الوجود والتي تشكل أساس البناء الفلسفي عنده، بما في ذلك نظريته في المعرفة.

 يقسم أفلاطون الوجود إلى قسمين غير متساويين:

 القسم الأول هو العالم المحسوس:

 وهو ينقسم بدوره إلى قسمين آخرين هما: الظلال، والخيالات… إلخ، ثم الأشياء الحسية الجزئية نفسها.

 القسم الثاني هو العالم المعقول:

 وينقسم هو الآخر إلى قسمين هما: الموجودات الرياضية، والمثل. وهذا العالم يمثل الوجود الحقيقي، فما العلاقة بين العالم المحسوس والعالم المعقول؟

 يرى أفلاطون أن عالم المثل هو الأصل، والأشــياء الموجودة في العالم المحسوس عبارة عن ظلال أو صور أو انعكاســات لهذه المثل العقلية، ولهذا فهو مجرد ظاهر غير حقيقي، لأن الحقيقة ثابتة لا تتغير، بينما العالم المحسوس هو عالم التغير.

 مثال: هذه الشجرة وتلك الشجرة وغيرها من ملايين الأشجار التي توجد في عالمنا لها «مثال» هو الطبيعة العقلية العامة التي تشترك فيها جميع الأشجار الجزئية، أي «مثال الشجرة» التي تمثل مبدأها الثابت، وعلى ذلك فالفرق بعيد بين المحسوســات وماهياتهــا (أي مثلها)، فالمثل كاملة وأزلية وعقلية من كل وجه، أما المحسوسات فهي ناقصة تتفاوت في تحقيق ماهيتها، ولا تبلغ أبداً إلى كمالها، فالعالم المعقول إذاً هو المثال وهو الطبيعة العقلية لعالم الحس وأصله. 

كل إدراك كلي له حقيقة خارجية هو صورة لها، هذه الحقائق الخارجية هي ما يســميها أفلاطون «المثل». 

كيــف عرفنا هــذه المثل؟ (وبتعبيــر آخر): كيف ندرك عالــم المثل عند أفلاطــون الذي هو عالم الحقيقة؟ 

سنتعرف على إجابة هذا السؤال من خلال الحوار التالي مع أفلاطون:

 (….): كيف يستطيع الإنسان أن يعرف عالم المثل … المستقل عنا؟

 أفلاطون : هناك طريقتان لمعرفة عالم المثل هما: التذكر – الجدل. وسوف أحدثكم عن كل منهما بالتفصيل:

 أولا:ً التذكر:

 (…..) تذكر ماذا…؟

 أفلاطون: تذكر عالم المثل.

 (…..) كيف نتذكره ونحن لم نره…؟

 أفلاطون: كانــت النفس الإنســانية تعيش في البداية وســط عالــم المثل ثم ارتكبت خطــأ فحكم عليها بالخروج من هذا العالم والهبوط إلى العالم المادي حيث تلبســت الجسد فنسيت كل ما كانت تعرفه من حقائق، ويأتي التعليم ليزيل ما علق على النفس من غبار ويجعلها تتذكر هذه الحقائق من جديد، فالمثل – كما سبق أن ذكرنا – ليست متحققة في التجربة (بما هي مثل) ولا مكتسبة بالحواس، بل لا بد من قوة روحية تعقلها، أو بالأحرى تجعلنا نتذكرها بعد أن عقلتاها في عالم يماثلها.

 (……..) هــل تعني بذلك أن عمل العقل عند إدراك المعطيات الحســية أو العقلية يتلخص في تذكر معرفة سابقة على التجربة؟ 

أفلاطون: نعم، فالمعرفة أولية غير مكتسبة بالتجربة، وإن في النفس أفكاراً فطرية مولودة معها.

 ثانيا: الجدل:

 وهو الوسيلة الأساسية أو (المنهج) لمعرفة عالم المثل، وينقسم إلى نوعين هما:

 المرحلة الأولى: الجدل الصاعد: 

ويســير من الإحســاس إلى الظن إلى العلــم إلى العقل الخالص، فالإحســاس الحاضر ينبه في الذهن ما اقترن به في الماضي، وما يشــابهه أو يضاده، فتبدأ عملية التذكر بالأســئلة المرتبة يلقيها علينا ذو علم، وهنا ترتقي النفس إلى مرحلة الاســتدلال وهي مرحلة وسط بين المحســوس والمعقــول، وهي معرفة ناتجة عن الفهم كالمعرفة الرياضيــة فرغم أنها معرفة يقينية إلا أنها معرفة وسط بين الظن والعلم الحقيقي.

 مثال: علم الحساب، فالعالم يهتم بالأعداد نفسها بصرف النظر عن المعدودات (الجانب الحسي) ولكنه لا يقيم الدليل على وجود الموضوعات الرياضية (أعداد أو رموز….. إلخ). 

والفيلسوف وحده يحقق ذلك بالتعقل الخالص وصولا إلى عالم المثل الذي يشمل الأفكار العقلية الخالصة لجميع الموجودات.

 المرحلة الثانية: الجدل الهابط:

 يتبين لنا بواسطة الجدل ان هناك مشاركة بين المثل وبانها مرتبة في انواع واجناس اي بعضها مرتبط بالبعض الاخر بوساطة مثل اعلى واعم وصولا إلى أرفعهــا  جميعا، وهو مثال «الخير». فهي مرتبة من الأعم (مثال الخير) إلى الأخص (مثل المحسوســات)، هذا إذا كنا ننزل من عالم المثل إلى المحسوس، أما العكس أي من العالم المحسوس إلى المعقول، فتكون مرتبة من الأخص إلى الأعم.

 ويضع الجدل هذه العلاقات في أحكام، مثال: هذا «المثال» يشارك الآخر في صفة البياض، ويشابه ً ثالثا في الحجم … إلخ وهو بذاته (أي مع بقائه) هو هو.

 ووظيفة الجدل الهابط هو الكشف عن هذه العلاقات بين المثل حيث يهبط من أرفع المثل (الخير) إلى أدناها ً وفقا لقواعد منطقية، إذ يقســم الجنس إلى أنواع، والأنواع إلى أفراد، وهكذا لاستيعاب الأقسام ً جميعا، والجدل الهابط منهج مكمل للجدل الصاعد.

2- رينيه ديكارت (١٥٩٦ – ١٦٥٠م):

فيلسوف فرنسي من أعظم فلاسفة العصر الحديث، أطلق عليه المؤرخون لقب «أبو الفلسفة الحديثة» كرس نفســه للبحث العلمي والفلســفي، وكان  عالما ً رياضيا وترتبط فلسفته بنظريته في الرياضيات، وهو من أهم مؤسسي المذهب العقلي.

 وسائل المنهج العقلي عند ديكارت:

 للمنهج العقلي عند ديكارت وسيلتان أساسيتان يستطيع العقل الوصول بهما إلى اليقين وهما: 

أ – الحدس:

 أي المعرفة العقلية المباشرة التي يدرك بها العقل الحقائق البسيطة الواضحة بذاتها.
 نص رقم «١ «المعرفة الحدسية 
«….. لا ينبغــي على المعرفة التي يمكن أن نقيم عليها ً حكما ً يقينيا، أن تكون واضحة فقط بل يجب ً أيضا أن تكون متميزة، والفكرة الواضحة هي تلك التي تكون حاضرة في ذهن يقظ، متنبه، وواضحة فيه…. 
والفكــرة المتميزة هي تلك التي تكون جــد دقيقة وجد مختلفة عن الأفكار الأخرى والتي تظهر واضحة ً تماما لمن يتفحصها كما يجب…».

ب – الاســتنباط:

 هو اســتخلاص نتائج جديدة من مقدمــات نعرفها معرفة يقينيــة والتي تتمثل في مقدمات حدسية، أي أن دور الاستنباط يجيء بعد الحدس وبه تدرك الطبائع المركبة.
 مثال: حين نقول أ = ب، ب = جـ إذن (أ= جـ) فهذه طريقة استدلالية استنباطية مبنية على البديهية التي تقول «الشيئان المساويان لشيء ثالث متساويان»، وبهاتين العمليتين العقليتين نتوصل إلى المعرفة اليقينية.

تقسيم الأفكار عند ديكارت:

 يقسم «ديكارت» الأفكار من حيث مصدرها إلى أنواع ثلاثة مختلفة:

 ( أ ) الأفــكار الفطرية:

 وهي الأفــكار التي توجد فينا كامنة بالفطرة، وهــذه الأفكار تتصف بالوضوح والتميز (كفكرة الذات، وفكرة االله، وفكرة الامتداد، والجوهر… إلخ). لذلك فصدقها يقيني، ويقول ديكارت إن هذه الأفكار ليســت مطبوعة في الذهن، ومرتسمة فيه كأبيات من الشعر، ولكنها موجودة فيه بالقوة فلا تظهر إلا بإعمال الفكر.

 (ب) أفــكار ثانويــة:

 وهي الأفكار التي تأتينا من الأشــياء الخارجية عن طريــق الحواس وهذه أفكار عارضة قد توجد في بعض الأشياء دون بعضها الآخر: كاللون، والطعم… إلخ. 

(جـ) أفــكار مركبة (مصنوعة):

 وهي الأفكار التي ننتجها بخيالنا وبإرادتنا من الأفكار المســتمدة من الحس، كفكرة جبل من الذهب – وما شابه ذلك.

 تعليق عام:

 نلاحظ أن التجريبيين بوجه عام رفضوا الأفكار الفطرية، وأرجعوا المعرفة في أساســها إلى الحس والانطباعــات الحســية، ورغم ذلك لم يســتطيعوا إلغاء دور العقل حيث اعتــرف «لوك» ببعض المعاني والأفكار الكلية. وكذلك الفلاســفة العقليون الذين أرجعوا المعرفة إلى العقل والأفكار الفطرية ولكنهم لم يلغوا دور الحواس في تنبيه قوي.
فالمســألة إذن ليست إلغاء ً تاما للحس عند العقليين أو للعقل عند الحسيين بل يتعلق الأمر بأفضلية كل منهما على الآخر في نظر كل فريق.
 فالحســيون يعترفون بوجود المعرفة العقلية ولكنهم يفســرونها باعتبارها صدى لإدراكنا الحســي، ويعترف العقليون بوجود المعرفة الحســية ولكنهم يفسرونها باعتبارها بحاجة إلى رقابة العقل (ديكارت) وتنبيه العقل (أفلاطون).

© موقع كنز العلوم.  جميع الحقوق محفوظة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى