قراءة في الخطاب السامي 23 نوفمبر 2020م
قراءة في الخطاب السامي 23 نوفمبر 2020م
د. بدرية بنت محمد النبهانية
ان الحضارات الإنسانية الخالدة إلى يومنا هـذاء اكتملت منظوماتهـا واليسـها مـن خـلال الحفاظ على عدد مـن مرتكزاتهـا التـي تمثـل جـزءا لا يتجـزا مـن هويتهـا المتمثلـة فـي الديـن واللغـة والتاريخ، التي تتبلور بصـورة واضحة فيما يعرف بالمواطنة. وإن كان بعض الباحثيـن يـرون أن المواطنـة تـاتـي إثـر تـراكـم تاريخي ديناميكي للشعوب وفـق الحراك التاريخي، ليصبح سلوكا مكتسبا وممارسة واضحـة لهـا نطرهـا ومؤسساتها، بما يتناسب كل مجتمع وقيمـه وارثـه الحضـاري: ولهـذا فلاشـك أن دولـة كسلطنة عمـان بتاريخها الحضاري الممتد لأكثر من ثلاثة آلاف عـام حافظـت علـى مرتكزاتهـا الحضاريـة التـي عكسـت مبـادئ المواطنـة فـي أكـثـر مـن جـانـب، ليظهـر جـليـا فـي تاريخها الحديـث والمعاصـر لقـدركـز حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثـم بـن طـارق -حفظه الله ورعاه- في خطابه على المرحلة الحالية، واليـة التعاطي معهـا، مؤكدا على أهميـة مبـادئ الـولاء والانتمـاء للوطـن ورمـوزه التاريخية، وفيمـا يلـي استعراض لبعـض مبادئ المواطنة الحاضـرة فـي الخطاب السامي:
أولا / الولاء والانتماء والحفاظ على السويـة والتراث والتاريخ العماني
تعكـس افتتاحية الخطاب السامي الكثير من الأطر المتعلقة بالمواطنة وقيمهـا ذات المنبـع الإسلامي الخالـص. فالخطاب ابتـدأ بـ: “أيهـا المواطنون الكـرام” وانتهى بخطاب الشعب ” أبنـاء عمـان الأوفياء”. وبينهمـا تـرددت العبـارات الصادقـة مـن القائـد لأبنائه. لقـد كان لكلمـات التأييـن فـي بدايـة الخطاب أثرهـا البالـغ فـي ترسيخ قيـم الحـفـاظ على الأثر الطيـب لباني نهضة عمان الحديثة السلطان قابوس بن سعيد -طيـب اللـه ثـراه.. والشكر والتقديـر للمواطنيـن أولا ولكل من تربطه علاقة صداقـة مـع عمـان ثانيا. وهـذا جـزء أصيـل مـن أخـلاق العماني الكريم، والتي ظهرت جليـة فـي تاريخه الممتـد، اينمـا وطلـت قـدمـه لقد سلك الخطاب السامي مسلكا غمانيـا رصينا، متبعا منهج تربويا في مجال المواطنة، تضمن توجيهات للتربيـة على قيـم المواطنـة، وحثهـم علـى الانتمـاء لهـذا الوطـن والإعتزاز بتاريخه، مؤكدا على رسالة السلام التي انتهجتها عمـان دائمـا وأبـدا، مستلهمة مـن تاريخهـا وإرثها الحضاري رواسخ للتقريـب والبناء لجسور التفاهم والسلام بيـن الـدول. وكان لعبـارة جلالتـه المعنى العظيـم فـي وصـف رسالة عمـان بالأمانـة التـي يجـب الاستمرار في حملهـا حيـث قـال جـلالـتـه “وهـذا مـا سـنحرص على استمراره معكـم وبكـم، لنـؤدي جميعا بكل عزم وإصرار دورنا الحضاري وأمانتنا التاريخية”.
ثانيا/ المشاركة والمسؤولية:
لقـد جـاء الخطاب السامي مفعما بالأفكار التي تؤطر للعمـل القـادم مـن أجـل تحقيـق رؤيـة عمـان ٢٠٤٠م. والتـي مـن خلالهـا أكـد جـلالـتـه “أن تظـل عمـان الغايـة الأسـمـى فـي كل مـا نقـدم عليـه وكل مـا نسعى لتحقيقـه داعيـن كـافـة أبنـاء الوطن دون استثناء إلـى صـون مكتسبات النهضة المباركة والمشاركة الفاعلـة فـي إكمـال المسيرة الظافرة متوكليـن علـى اللـه عـز وجـل راجيـن عونـه وتوفيقـه”.
ولاشك أن تأكيـد جـلالتـه فـي خـطابـة السـامي الأول على إعادة هيكلة الجهـاز الإداري للدولـة كان لها أثرهـا الكبيـر بالدفـع بالطموحـات لأعلى مستوياتها، إذ أن العالـم اليـوم يشهد العديـد مـن التغيرات والتطورات التـي يجـب على الـدول مواكبتهـا لتصـل بشعوبها لأقصى الطموحـات ولهـذا نجـد الخطاب السامي منطلقـا مـن مبـادئ المسؤولية المشتركة بين الحاكم والمحكوم يفصـل فـي خـطابـه حـول خطط الحكومة القادمة فيما يتعلق بالجهاز الإداري، مفصلا في الرؤيـة العامـة لهـا، وفـق مـا جـاء كذلـك فـي رؤيـة عمـان ٢٠٤٠م، مـن تحديـث منظومة التشريعات والقوانين، والتوجـه نحـو حوكمـة الأداء، وترسيخ مبادئ النزاهة والمساءلة والمحاسبة لضمـان العمـل وجـودتـه ضمـن أطـر واضحـة للإسهام بفاعلية في المنظومة الاقتصاديـة، لأجـل تخفيـض المديونيـة العامـة، وزيادة الدخـل، وتحسين مستوى المعيشة، والأهـم مـن ذلـك تحقيـق الـتـوازن المالي، وتعزيـز التنوع الاقتصادي، واستدامة الاقتصاد الوطني.
إن المشاركة التي يؤطرها الخطاب السامي هنا هي تعريـف الشعب بالخطوات التي سيتخذها حضرة صاحـا الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه فـي عهـده الميمـون، ولهـذا نجـده بعد التدرج في توضيـح أهمية الشباب وأهميـة التعليم، منتقـلا لإعادة هيكل الجهـاز الإداري بتفاصيـل الرؤية السامية، انتقـل للجانـي الاقتصادي المتعلـق بمشاركة الشعب، متمثـلا فـي قـطـات المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وقطاع ريـادة الأعمـال والقطاعات التقنية المتعلقة بالثورة الرابعة والتي تعد أيض محـورا مهمـا مـن مـحـاور رؤيـة عمـان ٢٠٤٠، وتأتـي فـي إطـار تشجيع الابتكار والتقنيات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي وجميـع هـذا يشـكـل جـزءا مـن حـريـة الإبداع والابتكار.
ولــم يكتــف جاللــة الســلطان – حفظــه اللــه ورعــاه- بتوضيــح هــذه الــرؤى، بــل تنــاول قطــاع رئيســي مهــم للاقتصــاد وهــو قطـاع التشـغيل، مؤكـدا علـى أن هنـاك توجــه كبيــر لمراجعــة كل مــا يتعلــق بأنظمــة التشــغيل مــن نظــم التوظيــف فــي القطــاع الحكومــي وتطويــره، للاســتفادة مــن الكفــاءات والخبــرات الوطنيـة المؤهلـة لضمـان اسـتقرارهم ليحملـوا رايـة البنـاء والتنميـة فـي هـذا البلــد العزيــز.
وقــد رســخ جلالتــه -أبقــاه اللــه- مبــدأ المشــاركة وأهميتــه فــي التعاطــي مــع المســتقبل، مؤكــدا أنــه دعامــة أساســية مــن دعامــات العمــل الوطنــي، الأمــر الــذي ينطـوي معـه المشـاركة الاقتصاديـة والسياسـية والاجتماعيـة كذلـك. مبينـا أن التاريـخ الراسـخ لعمـان جـاء بتضحيـات أبنائهـا، وبذلهــم مــا يملكــون فــي ســبيل إعلاء شــأنه، وأن هــذا الــدور
واجــب علــى كل مــن يعيــش علــى هــذه الأرض الطيبــة، وأن مصلحـة الوطـن فـوق المصالـح الشـخصية، ولهـذا تعد النزاهة مـن القيـم المهمـة التـي يجـب علـى كل موظـف ومسـؤول أن يتحلــى بهــا.
ثالثا/ المساواة والعدالة:
إن توضيـح جاللـة السـلطان هيثـم بـن طـارق المعظـم -حفظـه اللـه ورعـاه- فـي أكثـر مـن جانـب مـن خطابـه وإشـارته للنظـام األساسـي للدولـة ليعـد شـاهد واضـح لترسـيخ مبـادئ العــدل والمســاواة التــي جــاءت فــي نصــوص جلالتــه بنــص العبــارة أن عمــان ” دولــة القانــون والمؤسســات”، هــذا القانــون الــذي لا يفــرق بيــن مواطــن ومقيــم، وأن الــكل سواســية أمــام القانون، مبينا أن عمـان دولـة تقـوم على مبادئ الحريـة والمساواة وتكافؤ الفرص، وأن قوامها العدل وكرامة الأفراد وحرياتهـم بمـا فيهـا حرية التعبير عن الرأي التي كفلهـا النظام الأساسي للدولـة. ولا شك أن تأكيـد جلالته على أهميـة الشـباب ودورهم في المجتمع، يوضح الأهميـة التـي يجـب أن يحضى بهـا هـؤلاء، خاصة أنهـم يشكلون النسبة الأكبـر مـن عـدد السكان فـي عمـان، ومـا خـطـاب جـلالتـه إلا عامـلا ر محفزا لكل القطاعات المتصلة بهـم للاهتمام بهم وتلمس احتياجاتهم وتطلعاتهـم، ومنهـا قطاع التعليـم، وتوفيـر البيئة الداعمـة والمحفـزة للبحـث العلمي والابتكار والتـي تصب ضمـن مـحـور التعليـم الرئيـس فـي رؤيـة عمـان ٢٠٤٠م.
كمـا أفـرد جـلالـتـه -أعزه الله- في جانب المساواة مساحة من خطابه للمـرأة العمانيـة، مؤكدا على أهمية تمتعها بحقوقها كفلهـا لهـا القانون، ومنهـا الـعمـل بجانـب أخيهـا الرجـل لخدمة مجتمعهـا ووطنهـا، مؤكـدا جـلالـتـه -أبقـاه الله- على رعايتـه الدائمـة لهـا والتي تمثـل واحـدة مـن الثوابت الوطنيـة التي ” لا نحيد عنهـا ولا نتساهل بشأنها”. واختـتـم جـلالـتـه هـذا الخطاب السامي الأول كمـا بـدأ به، بشكر الله تعالى على نعمه، والدعـاء لـه تعالى بأن يعيـن جلالتـه علـى هـذه الأمانة العظيمة، وأن يحفـظ اللـه البـلاد والعبـاد، وهـذا النـوع مـن الافتتـاح والختـام مـا هـو إلا تقليـد عمـانـي راسـخ فـي خـطابـات ومراسلات الأئمـة والسلاطين اللذيـن تعاقبـوا علـى هـذا البلـد العزيـز.
المصدر:
نشرة العهد الجديد
نشرة تربوية عن المواطنة
العدد الخامس ديسمبر 2020