فلسفة العلم في القرن العشرين:
كان من بين أقسام الفلسفة ً قديما قسم يسمى «فلسفة الطبيعة» يأخذ على عاتقه تفسير ظواهر الطبيعة تفســيراً ً عقليا ليضع نظرية فلســفية عن الكون بأســره، لكن عندما ظهر العلم في القرن السابع عشر وبدأ انفصال العلوم عن أمها الفلســفة توارت «فلســفة الطبيعة» ليحل محلها الآن في القرن العشرين ما يسمى «فلســفة العلم» التي يوحد بعض الباحثين، ً أحيانا، بينها وبين مناهج البحث Methodology في حين أن فلسفة العلم أوسع كثيراً من «مناهج البحث» لأنها تشملها وتزيد عليها ما يسمى باللغة الشارحة للعلم Language – Meta وتقوم بتحليل المفاهيم العلمية المختلفة، وما يثار من مشكلات نتيجة لتطور العلم ومناهجه، وسوف نعرض عليك فيما يلي بعضا منها:
(1)الاستقراء:
لا حظنا فيما ســبق أن العلم يعتمد على المنهج التجريبي «الاستقرائي» غير أن فلسفة العلم المعاصر وضعت «فكرة الاســتقراء» موضع البحث والمناقشــة بســبب ما فيها من ثغرات، حتى أن فلاســفة العلم المعاصــر نظروا إلى الاســتقراء على أنه ليس ً منهجــا ً برهانيا (بما يعني أن نتائجه ليســت صادقة ً صدقا ً ضروريا، فما المبرر العقلي الذي يجيز لنا الانتقال من دراسة مجموعة من الظواهر الجزئية (كقطع الحديد مع النار ً مثلا) إلى مبدأ عام هو القانون بحيث أستطيع أن أقول في اطمئنان إن جميع قطع الحديد تتمدد بالحرارة، افرض أنني أجريت تجارب عديدة على غليان الماء وكانت النتيجة باستمرار أنه يغلي في درجة 100 ثم يتبخر بعد ذلك، فكيف أعمم الحكم على جميع الأمثلة الأخرى التي لا أعرف عنها ً شيئا؟ وكيف يشمل حكمي ما وجد في الماضي وما سوف يوجد في المستقبل؟
(2)الحتمية:
ترتبط الحتمية بالإستقراء، فإذا كان إجراء التجارب على قطع الحديد قد كشف عن تمددها بالحرارة ولما كانت قد انتهيت من ذلك إلى حكم عام هو أن القانون لا يصدق فقط على قطع الحديد التي خضعت للتجربة بل على جميع القطع في كل مكان وزمان، فإن معنى ذلك أن صدق القانون «حتمي» وأن الحتمية هي التي تســيطر على ظواهر الطبيعة ، لكن لما كان الاســتقراء « ً ناقصا» لأنه ينصب على عدد محدود من الجزئيات فإن القول بحتمية القانون العلمي تصبح موضع شــك كبير، ومن هنا فقد ذهب «ادنجتون» إلى أنه لا يعرف أي قانون حتمي في الطبيعة، وأن القول بالحتمية ليس ســوى نتيجة لمعرفة ســطحية بظواهر العالم. وهكذا أصبح القانون العلمي في فلســفة العلم المعاصر ً صادقا على ســبيل الاحتمال المرجح فقط أي أنه من المرجح جداً أن يتمدد الحديد بالحرارة في كل زمان ومكان لكن ذلك ليس أمراً ً محتوما.
(3) العلية:
لم يعد فلاســفة العلم المعاصــرون ينظرون إلى القانون العلمي على أنه يتضمــن ً دائما علاقة ِعل فقد توصل علم الحياة مثلا إلى أن «الحيوانات الثديية حيوانات فقارية»، كما حدد علماء الطبيعة ســرعة الضوء بأنها 186٫000 ميل في الثانية، وقل مثل ذلك في القانون الثاني للديناميكا الحرارية الخاص بانتقال الحرارة من الجســم الأكثر حــرارة إلى الأقل حرارة ولا عكس لهذا المســار… إلخ، هذه القوانين ومئات غيرها لم يكن مبدأ العلية هو الأساس في التوصل إليها، فليست القوانين العلية كلها من قبيل “الحركة علة الحرارة” “وفاة فلان هو تجرعه للســم” … إلخ، وليس معنى ذلك أنهم ينكرون مبدأ العلية تماما وانما ينكرون فقط ان يكون كل قانون عليا، أي أن يكون القانون العلمي قائما باستمرار على مبدأ العلية أو يمثل تفسيرا عليا للظواهر.
(4) التفسير العلمي:
لم يعد التفســير العلمي محصوراً في ربط ظاهرة مجهولة وتفســيرها بظاهرة معروفة، وإنما قد يتم تفســير القانون العلمــي بقانون علمي آخر، فجهد الصعود إلى قمة الجبــل يحتاج إلى زيادة في التنفس، تفسره علوم الحياة والفسيولوجيا بزيادة كمية ثاني أكسيد الكربون في الدم، ويتضمن هذا التفسير أن كل قانون يعتمد على قوانين أخرى، وقد تفسره قوانين من علوم مختلفة، كما أنه قد يؤدي إلى قوانين جديدة. كما ذهب فلاسفة العلم أيضا إلى أن القانون العلمي ليس «تفسيراً» وإنما هو«وصف» فقط لما يجري أمامنا من ظواهر الطبيعة ، وهكذا اختفى «التفسير» من وظيفة العلم وحل محله وظيفة «الوصف».
(5) خطوات المنهج العلمي:
مــن أهم ما طرأ على المنهج العلمي من تعديل في فلســفة العلم المعاصــر، إعادة ترتيب خطوات هذا المنهج، فقد ســبق أن ذكرنا أن هذا المنهج يبدأ بالمشــاهدة والملاحظة ثم فرض الفروض، وإجراء التجارب … إلخ، لكن المنهج العلمي المعاصر ينكر هذه الأســبقية للملاحظة على نحو ربما اختفت معه هــذه الخطوة. فالمنهــج العلمي المعاصر يبدأ بفرض من الفروض ثم يتحول إلى الملاحظة والتجربة بعد ذلك، ً فضلا عن ظهور معان جديدة لمصطلحي «الفرض» و«الملاحظة».
وهكذا نجد أن فلســفة العلم المعاصرة تنصب على فكر العالم: كيف يفكر؟ ما خطوات ســيره في بحثه؟ ما المصطلحات والمفاهيم التي يستخدمها وما معناها… إلخ.
© موقع كنز العلوم. جميع الحقوق محفوظة.