لغة عربية
السرد في التراث القصصي
زعموا أن…. “
من الطرائق السردية التي استعملها العرب في سرودهم منذ العهود المبكرة، عبارة أزعموا أن) ولعل عبد الله بن المقفع أن يكون أول من اسطنع هذه الطريقة السردية التي تلائم طبيعة الحكاية في شكلها المألوف منذ القدم وذلك حين نقل بشيء ، نفترضه ، من التصرف واسع، خرافات ( كليلة ودمنة) عن الأدب البهلوي ( الفارسي ) الذي يزعم بعض المؤرخين أنه كان قد نقل عن الأدب الهندي، إلى اللغة العربية.
ولعل قائلاً أن يقول: وما شأن ابن المقفع بهذه الطريقة السردية والحال أنه لم يرد شيئاً على أن نقل إلى العربية ما كان مديجاً في اللغة الفارسية القديمة، فهو، إذن، لم يبتكر بمقدار ما ترجم ، ولم يبدع بمقدار ما نقل؟ ونحن نجيب عن هذا الاعتراض الشعوبي المفترض، بأنه لا يقبله منطق، وبأنه لا ينبغي له أن يقوم دليلاً دامغاً على انعدام أهمية جهد ابن المقفع وجهد اللغة العربية وعبقريتها. ذلك أن الذي يترجم، إنما يترجم بما يتلاءم مع روح اللغة المترجم إليها، وإلا كانت ترجمته فجة فطيرة، وعليلة حسيرة. وهي سيرة من السوء لا تصادفنا في ترجمة ابن المقفع المزعومة. ونحن إنما نقول ( المزعومة) لأننا نشك في أن يكون ابن المقفع ترجم ذلك الأثر السردي ترجمة حرفية… وإذا سلمنا جدلاً، بفارسية كليلة ودمنة حقاً – فقد جاء إليها وأبدعها إيداعاً، وأجراها في العربية على ذلك النحو البديع الذي كانه ينم عن تجربة طويلة في ممارسة الكتابة السرديّة، حتى كأنه إبداع وابتكار، لا ترجمة ونقل وربما يكون عبد الله بن المقفع اصطنع مصطلح أزعموا) لأن الناس كانوا على عهده، جراصاً على الرواية الموثوقة ؛ فكانوا شديدي العناية، عهدئذ، بجمع نصوص الحديث النبوي وتوليتها، ورواية اللغة العربية وضبط قواعدها. وترويج الشواهد الشعرية ” خصوصاً – علبها بين أئمتها، فكان لا مناص له، والحال ما ذكرنا، من أن يبتكر عبارة تميز بين ما يثقله هو إلى الأدب العربي من الفارسية القديمة، أو ما يُفترض أن يكونه، وأنه لم يكن يندرج ضمن الرواية التاريخية الموثوقة المتصلة بالتحري الدقيق ما أمكن ذلك، أو ما يعرف لدى المحدثين تحت مصطلح ( التعديل والتجريح) بحيث تكون رواية النص موصولة وصلا معنعناً ومتواتراً، أو تكون الرواية غريبة موقوفة … وإنما يندرج سلوك ابن المقفع في باب النقل الأدبي القائم على نسج اللغة وفيض الخيال، وعدم التحرّج من الزيادة والنقصان. وكذلك تقترض كينونة هذا الأمر في هذه المسألة بخاصة.
ولقد ظل مصطلح (زعموا ) هو اللازمة السردية الغالية على نص ( كليلة ودمنة) حيث تكرّرت هذه العبارة فيه ثلاثاً وأربعين مرة على الأقل، ولم يكد ابن المقفع يصطنع سواها إلا قليلا من مطالع حكايات هذا النص السردي البد. بيع. ولعل سعيه أن يكون أول طريقة من طرائق السترد العربي المكتوب، فـ (زعموا هذه، كأنها أم الأشكال السردية، وأصلها، وأعرقها في الأدب (…) وأياً كان الشأن، فإن مصطلح (زعموا ) ينسجم مع طبيعة السرد القائم على التسلسل الزمني الذي يأتي من الخارج، أو عن طريق حياد المؤلف المزعوم القائم على اصطناع ضمير الغائب (هم) … والماثل هنا في شكل (زعموا ) المقفعية ليس إلا دلالة حتمية على نفي الوجود التاريخي، وإثبات الصفة الخيالية الخالصة للعمل الأدبي بعامة، والعمل السردي بخاصة… فكأن تلك اللقطة السردية إنما وقعت لنفي الحقيقة التاريخية، وتجسيد الفعل الخيالي العارض الذي يظل مع ذلك خالداً، فاصطناع ذلك الماضي المتمحض للسترد، لدى الحكي، برهان على النظرة الواعية إلى الإبداع السردي، وأنه ليس من التاريخ، ولا من الحقيقة، ولا من الوجود ، ولا من الواقع وإنما هو من قبيل الخيال، والجمال، والفن، واللعب باللغة، والنسج باللغة، والإبهار بالحكي… إنه من قبيل تمثيل الواقع في ثوب الخيال… فالحقيقة ، هنا، أدبية لا تاريخية، وإبداعية لا واقعية. وذلك على الرغم من أنها تجسد عصراً ومجتمعاً، وأناساً كأنهم أحياء يرزقون (شخصيات).
وعلى الرغم من أن اللغة العربية عرفت ذلك الشكل السردي الماثل في عمل ( كليلة ودمنة) منذ مطلع القرن الثاني للهجرة؛ فإن تلك التجربة السردية ظلت، فيما يبدو، محدودة التأثير، بل كمُنعدمته ويبدو أنها لم تلق الزواج الجدير لها، لا تاريخ تطور الأشكال السردية العربية، ولعل ذلك يعود إلى:
أ) أنها عالجت أحداثاً رمزية أجرتها على ألسنة حيوانات تتحدث، وكأنها تعقل، وتتصارع من أجل البقاء، أو من أجل إرضاء نزعة الأنانية أو من أجل إشباع الغريزة الحيوانية، وكان من العسير على مجتمع شعري، منبثق عن حضارة البادية القطة أن يتقبل مثل تلك الرواية ويتذوقها، وينسج عليها، فيبدع ما يشابهها شكلاً أو مضموناً..
ب) أنها، نتيجة لذلك، لم تعالج قضايا تتصل بالحياة الاجتماعية أو العاطفية للعرب : فلم يُلف الناس فيها أنفسهم بشكل باد: فزهدوا فيها ، ورغبوا عنها، ولو على هون، فكان، إذن، غير ممكن النسج على منوال هذا الشكل السردي في الأدب العربي.
© موقع كنز العلوم. جميع الحقوق محفوظة.